رؤية في تعزيز الدور القيادي للمرأة البصرية انموذجاً

د. وجدان كارون فريح / رئيس قسم الدراسات التاريخية
مركز دراسات البصرة والخليج العربي
جامعة البصرة
يهدف المقال إلى تحليل مفهوم تعزيز الدور القيادي للمرأة من منظورٍ يقوم على الكفاءة والجدارة، لا على المجاملة أو التمثيل الشكلي، مع التركيز على نموذج المرأة البصرية في العراق بوصفها مثالًا للتجربة النسوية الواعية والمسؤولة. ويناقش المقال الفروق الجوهرية بين “المشاركة الرمزية” و”المشاركة الفاعلة”، مؤكدًا أن الحضور السياسي الحقيقي للمرأة لا يتحقق إلا حين يرتكز على العلم والخبرة والوعي بالمصلحة العامة. كما يستعرض المقال عددًا من النماذج النسائية البصرية التي أسهمت في التاريخ الوطني والثقافي للعراق، لتأكيد أن الريادة النسوية في البصرة ليست وليدة اللحظة، بل امتداد لمسارٍ طويل من العمل والوعي والالتزام الوطني.
الكلمات المفتاحية: الجدارة، المرأة، البصرة، المشاركة السياسية، الريادة النسوية.
تُعدّ مسألة تعزيز دور المرأة في الحياة العامة من أبرز القضايا التي شغلت الفكر السياسي والاجتماعي في العالم العربي خلال العقود الأخيرة. ومع تزايد الحديث عن المشاركة النسوية، برزت الحاجة إلى إعادة النظر في مضمون هذه المشاركة، والتمييز بين الدور القائم على الكفاءة والاستحقاق وبين ذلك الذي يُمنح في إطارٍ رمزيٍّ أو مجاملاتي. ومن هذا المنطلق، تطرح هذه الدراسة رؤية نقدية تؤكد أن الريادة في السياسة ليست امتيازًا يُمنح، بل مسؤولية تُؤتمن، وأن المشاركة النسوية الحقيقية لا تتحقق بزيادة الأعداد في البرلمانات أو المجالس، بل بما تُحدثه النساء من أثرٍ ملموس في القرار والسياسات العامة.

أولاً: الريادة مسؤولية والمشاركة مشروع وطني
إن مفهوم الريادة في المجال السياسي لا يقوم على المنصب أو الوجاهة، وإنما على الوعي بمسؤولية القرار. فالسياسة ليست ساحة استعراض، بل مجالٌ لاتخاذ القرار وتحمل تبعاته. وعليه، فإن الدعوة إلى تعزيز حضور المرأة يجب أن تنطلق من أساس موضوعي يرتكز على الكفاءة والمعرفة والخبرة، لا على الرغبة في تحقيق تمثيلٍ رقميٍّ أو استيفاء شروطٍ شكليةٍ للحداثة السياسية.
إن الريادة، بهذا المعنى، مسؤولية وطنية تتجاوز فكرة الدعم الشكلي، إذ تُلزم صاحبتها بأن تكون على وعيٍ بتحديات الواقع وقدرتها على إدارة الموقف، والتفكير في المصلحة العامة قبل الاعتبارات الشخصية. أما المشاركة التي تقوم على الصدفة أو المجاملة أو الرغبة في الظهور، فإنها لا تسهم في تطوير العملية السياسية، بل تُضعفها، وتُسيء إلى فكرة المشاركة الواعية ذاتها.
ثانياً: بين الجدارة والطارئات في المشهد السياسي
يواجه تعزيز الدور النسوي في السياسة في الوطن العربي بشكل عام، والعراق بشكل خاص، إشكالية التباين بين الجدارات الحقيقية والوجوه الطارئة. فعندما يُختزل حضور المرأة في التمثيل العددي أو في تعيين أسماء نسائية دون مراعاة الكفاءة، يتحول إلى حضورٍ تجميلي لا أثر له في الواقع العملي.
إن الجدارة هنا تُعدّ معيارًا موضوعيًا، يقوم على العلم والخبرة والوعي السياسي، وعلى القدرة على اتخاذ القرار والعمل من أجل الصالح العام لا المكاسب الفردية.
فالسياسة الواعية تتطلب نساءً يمتلكن الرؤية والخبرة والمشروع، لا نساءً تُقدمن بوصفهن رموزاً للزينة الديمقراطية. وبقدر ما يُهمّش المؤهلات لصالح الأسماء، تتراجع جودة الأداء السياسي، سواء لدى الرجال أو النساء على حدٍّ سواء.
ثالثاً: البصرة نموذجاً للريادة النسوية الأصيلة
تمثل البصرة نموذجًا متميزًا للريادة النسوية في العراق. إنها ليست مجرد مدينةٍ جغرافية، بل فضاءٌ حضاري وثقافي كان للمرأة فيه حضورٌ فاعل منذ بدايات التاريخ الإسلامي، إذ أسهمت نساء البصرة في بناء المجتمع فكرياً وثقافياً وتعليمياً، فكنّ جزءاً أصيلاً من حركة الوعي الوطني، وشهدت المدينة عبر العصور نماذج عديدة للمرأة الجديرة التي جمعت بين الالتزام والمسؤولية والمعرفة.
فكانت من أوائل تلك النماذج مارية بنت منقذ العبدي من عبد القيس، التي قدّمت زوجها وأبناءها شهداء مع الإمام علي عليه السلام في سبيل المبدأ، وساهمت في تعبئة قومها ودعمهم لمناصرة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.
وبرزت في القرن العشرين فكتوريا نعمان التي أسست فرعًا نسائيًا لجمعية “بيوت الأمة” في سن الخامسة عشرة، وشغلت مواقع ريادية في التعليم والإعلام والعمل الاجتماعي، وكانت أول مذيعة عراقية عام 1943، ومن مؤسسات “جمعية المرأة العراقية”.
وتُعد السيدة عالية محمد باقر في عصرنا الحديث مثالًا مميزًا للمرأة التي جمعت بين المسؤولية الوطنية والثقافية، إذ أنقذت مكتبة البصرة المركزية عام 2003 من الدمار، محافظةً على آلاف المخطوطات والكتب النادرة التي تمثل ذاكرة العراق الثقافية.
تؤكد تلك النماذج التاريخية أن المرأة البصرية كانت ولا تزال قادرة على الجمع بين الفكر والفعل، وبين الوطنية والاحترافية، بما يجعلها مؤهلةً لتمثيل مدينتها ووطنها في مواقع القرار.
رابعًا: نحو مشاركة نسوية فاعلة قائمةٍ على الجدارة
إن تعزيز الحضور القيادي للمرأة لا يتحقق بالتصريحات أو الشعارات، بل بفتح المجال أمام الجديرات اللاتي يمتلكن مشروعًا واضحًا وخبرة عملية وقدرة على صناعة القرار. الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في آليات الاختيار والترشيح، وضمان ألا تتحول مشاركة المرأة إلى حضورٍ رمزيٍّ أو تمثيلٍ مجاملاتي. فكما لا يُقبل أن يتصدر المشهد رجالٌ بلا كفاءة، كذلك لا يصح أن تُمنح مواقع المسؤولية لنساءٍ يفتقرن إلى الخبرة أو الوعي بالمصلحة العامة.
إن المعايير التي تُبنى عليها المشاركة السياسية يجب أن تكون واحدة للجميع، قائمة على الكفاءة والالتزام والقدرة على خدمة المجتمع.
خاتمة
إن تعزيز الدور القيادي للمرأة لا يُقاس بعدد المقاعد أو بحجم التمثيل، بل بمدى الأثر الذي تُحدثه مشاركتها في صنع القرار وإحداث التغيير الإيجابي في المجتمع.
وإن الدعوة إلى دعم المرأة يجب أن تقترن بالسؤال الجوهري: من نُعزّز دورها؟ ولماذا؟ وعلى أي أساس؟. فإذا أُتيحت الفرصة للجديرات، فإن أثرهن سيكون عميقًا ومستدامًا، أما إذا فُتحت الأبواب للطارئات، فإن النتيجة ستكون عكسية، تُضعف المشاركة وتفقدها قيمتها الحقيقية.
إن البصرة، بتاريخها ونسائها ورصيدها الحضاري، قادرة على أن تكون نموذجًا وطنيًا يُحتذى في المشاركة الواعية والمسؤولة، حيث تكون الريادة مسؤوليةً تُؤتمن، والسياسة حقًّا للجديرات لا للطارئات.
([1]) عنوان المقال مقتبس من شعار “ندوة نساء البصرة” التي أقامتها السيدة هديل التميمي بتاريخ 24/ 10/ 2025.