
فاروق السامر
إن النزهات القصيرة التي يقوم بها هذا الرجل الذي تجاوز الخمسين من عمره عصر كل يوم تعتبر جزءاً من ذلك النظام العنيد الصارم الذي فرضه على نفسه، وتشبث به، وتعود عليه على مرّ الزمن، جسده القصير الضخم ذي الكرش المستديرة، وروحه الشفاف الرقيق، حتى أصبحت أهمية هذه النزهات رفيعة جداً، إذ أن النوبات الدورية المتباعدة التي تنتابه فجأة ويسميها في حالات صحوه «بالاشراقات» وفي حالات اندفاعه وتدهوره «بلحظات الجموح»، كانت هي الأخرى لا تعرف التساهل ولا الرأفة ولا التأجيل، فتداهمه كصخرة هائلة قد دحرجت من جبل، أو حيوان كاسر قطع عليه الطريق وسط الظلام.
لكن الصعوبة الحقيقية التي تكمن في عالمه الراعف بالرعب والفوضى والضجيج، والذي يفتقر إلى الصلابة والأحكام، حين تستيقظ في لحظة طارئة، جميع الأحاسيس المشوشة، والهواجس الدنيئة الملتاثة، ويتفاقم الطنين الخافت فوق صدغيه، بحيث يدور حول نفسه قلقاً، متفكراً، منتظراً، يقلّب عينيه المدورتين المشتعلتين اللتين يختلط صفارهما العميق بأوردة دموية رفيعة، مدركاً ما ستحمله اللحظة المقبلة من فزع وعذاب ومرارة. كل هذا من خلال التجربة، إذ أن الاختطاف الغامض لزوجته الحسناء الأولى قبل أن تنجب منه، قد ترك في نفسه أثراً بالغاً، وأحدث في عقله لوثة وارتجاجاً، وأصابه بصدمة عاطفية عميقة قيض له من خلالها أن يؤم غرف الردهات الضيقة، ويجوس في ممراتها الكئيبة الموحشة.
ورغم مرور زمن طويل على حادث الاختطاف وأسلوب التنكيل المروع الذي تعرضت له، بحيث كف الناس عن الثرثرة فيه، ورغم أنه لم يحتفظ من تلك الذكرى المريرة بشيء سوى شذرات دقيقة ناعمة كحبات الرمل أو قطرات الزئبق تنام في تجاويف ذاكرته التالفة مع عدد من القصائد الشعرية السود التي تفوح منها روائح القتل والجريمة والموت، وتسيطر عليها مشاعر التشاؤم والقرف والاشمئزاز، ما زال يخفيها في صندوق صغير مقفل إلى جانب بعض الخرزات والمحابس الفضية القديمة، فقد استمرّ منذ ذلك الحين يحدث نفسه بطريقة التهوين والمواساة؛ صحيح أن العلاج بالصدمات الكهربائية لفترات متناوبة قد ولى دون عودة، إلا أن عدم المواظبة على زرق الأبر الزيتية ذات السائل الأصفر، وتناول الحبوب المهدئة للأعصاب، والالتزام بنزهته المقررة، يعتبر جريمة كبرى بحق ذلك الرجل العظيم الذي أسدى إليه بنصائحه وإرشاداته. وما دام الأمر صريحاً وواضحاً كل الوضوح، فقد توصل من ناحية ثانية إلى شبه اتفاق مع زوجته الجديدة التي أنجبت منه لحد الآن رغم صغرها، ثلاث بنات وولدين، تستطيع بشروطه وهي تستريح بتمام الرضا واللامبالاة، طاوية ساقيها البيضاوين في الأرجوحة الحديدية التي تتوسط حديقتهم الصغيرة، تشرب قناني المرطبات. وتنفل قشور الكرزات، أن تلقي على كاهله جميع ما يتعلق بجلب احتياجات البيت لأنه أحوج ما يكون إلى الترويح عن نفسه المكدودة وتنشيط أطرافه التي فتر جريان الدم فيها. لكن ذلك في حقيقة الأمر لم يكن مبرراً واقعياً كافياً لشبه اتفاقه هذا، فإن من أولى العلامات المميزة لعقله الآسن المضروب، وعلى امتداد الفترات التي تعرض فيها للأزمة أن أصبح ورشة مناسبة للشك والريبة والغيرة وحب الامتلاك والخوف؛ ذلك أن نظرة واحدة ثاقبة من عينيه الفزعتين اللابدتين في كهفيهما العميقين، نحو زوجته بقامتها الممشوقة، وزنديها العاريين الدهنيين، وعينيها السوداوين البارقتين، بإمكانهما أن تؤجج النار في رأسه وتعيد الوساوس المكدرة إلى عقله، فيقرر في ذاته بأن هذه المرأة التي في حوزته، نادرة، نادرة جداً، وله كامل الحق أن يغار عليها، إنها العناية، إنه الحرص وهو الآن في السوق، والوقت عصراً، شديد الحرارة وفي طريقه إلى التلاشي والزوال، وكان قد قطع المسافة الطويلة نسبياً، المحصورة بين داره والسوق مشياً على قدميه، مدندناً بلحن قديم، ناسياً كل شيء، متلذذاً بالنظر إلى السيارات الرائحة الغادية في الشارع بتواثب، والتدقيق في المباني والبيوت المرابطة على الجانبين، والحدائق الصغيرة بين الفراغات الحاصلة بينها لتجميل المنطقة وتخفيف حدة تجهمها. وقد سلم أثناء جولته على الكثير من الأشخاص، وصافح البعض منهم وألقى بوجوههم ببعض النكات الماجنة. كان مزاجاً رائقاً فريداً قد هبّ عليه كالنسمة العابرة؛ وبعد أن صنع دورة كاملة في السوق أشعرته بدوار خفيف، وركز على الأفواه وهي تتكلم مفتوحة مرة ومنغلقة مرة أخرى كأنها تحدث جراء ضربات عميقة من نصل سكين، وحدق في العيون الشاحبة المريضة التي تضطرب داخل محاجرها متدثرة بجفونها الثقيلة أو دافعة عنها هذا الدثار، وشاهد حركة الأذرع المجردة المعروقة ذات الزغب الخفيف، ووجوه الحمقاوات البليدات الملطخة الماحلة، وانتبه لدكاكين البقالة واختلاط المواد فيها، والصناديق الفارغة المركومة التي طارت أغطيتها في الداخل والخارج، وتحسس عند الآخرين التعب والحيرة واللامبالاة، وحتى الدناءات والغباوات والفسوق، توقف أخيراً عند بسطات باعة الخضار وهو يشعر بأنه على غير ما يرام، على غير ما يرام، لكنه طرد من ذهنه هذا الإحساس الكئيب المفاجئ، وهذه الفوضى الطارئة، وانتبه للعلاقتين الطافحتين. كانت هاتان العلاقتان المصنوعتان من المشمع الملون قد فاضتا بمختلف الأشياء وظلت ناقصة لبعض الحاجات التي قدر حدود ضرورتها في ذهنه، والتي سوف يدبر أمرها بهذه الطريقة أو تلك، ولا يدري لماذا أحسّ بأن جميع هذه المواد المطروحة أمامه في سلال الخيزران والخوص لا تعجبه على الإطلاق وسوف لن ترضي زوجته الساحرة، اللذيذة، الوفية، فراح يردد في نفسه بجزع وضجر واشمئزاز وهو يقوم بتقليبها أو دفعها عنه:» إنّ هذا رديء.» و»ذلك متعفن» و»هذا يجب أن لا يشترى.» و»هذا تعافه النفس.» و»هذا تالف.» و»هذا تافه.» حتى أنه وصل بتعابيره تلك حد الضيق والانفجار مردداً بغضب مكبوت: إن جميع هذه الأشياء لا تساوي شيئاً. يجب رميها في براميل النفايات هناك. لكنه انتهى مرغماً بأن اشترى الكميات الضرورية من هذه المواد التي نعتها بتلك الصفات السيئة. وحين رزم العلاقتين بعد أن غطى سطحيها بقطعتين من الجرائد العتيقة استلهما من جنب البائع، رفعهما عن الأرض مجيلاً بصره في حركة السوق والشارع. كانت الحركة اعتيادية، يومية، باردة، متسقة، ذاهلة، وكان الناس يتسوقون ويثرثرون ، يقبلون ويدبرون، يتقاطعون ويعتذرون، فرادى ومثنى وجماعات، مشياً على الأرجل، وركوباً في السيارات. وشعر رغم ضيقه ونفوره بالزهو بهاتين العلاقتين الفائضتين، فقد انتهى أخيراً من هذه المسؤولية الطوعية وهذا الاختيار المحبب إلى نفسه ولا شيء بعد هذا وعليه أن يعود إدراجه نحو البيت. وأخذ يفكر وهو يقف بقامته القصيرة وكرشه المستدير فيما إذا كانت لديه القدرة الكافية في العودة مشياً على قدميه، وقرر بانشراح بأن من الأفضل له أن يصعد الباص ليرميه عند نقطة التقاطع القريبة من داره، لأن هذا الثقل الذي يحمله سوف يتفاقم تأثيره بعد حين ويشعر له بشعور مضاعف، فاستدار بنفس الزهو والكبرياء ونظراته القوية النافذة كنظرات صقر جائع تتعثر بالباعة والناس والدراجات والأرصفة الإسمنتية والأكشاك، فتلكأت عليه خطواته الأولى. كانت خطواته مرتبكة، نافرة، عاجزة، مضطربة، فتلبث في مكانه على الفور. كان لا يعرف بالضبط مصدر هذا الارتباك الذي أصابه وعكر عليه طمأنينته وصفو عقله. لا بدّ وأنه قد أبصر شيئاً مقززاً نافراً لا يمكن تحديده في هذه اللحظة. وأوعز ذلك إلى القلق والإرهاق، وربما إلى تلك الحاجات العفنة التي اشتراها مرغماً قبل حين بعد أن نقّب في تلافيف دماغه باحثاً عن سبب معقول. لا شيء. لا شيء إطلاقاً. وأراد أن يطرد خيط الظلمة الذي هبط عمودياً في وعيه بأن فرض على نفسه ضرورة القيام بمراقبة فاحصة دقيقة، وما عليه إلا أن يعاود النظر من جديد، وتحت تأثير هذا الضغط الاضطراري، راح يقلّب نظراته القافزة في أرجاء السوق، فتعثرت من جديد، هاه! إنه يرى أن هذا الشعور بالتعثر والتشتت والاصطدام له أسبابه الوجيهة أيضاً. وظل عقله خاوياً عاجزاً لا يقوى على الإدراك لفترة من الوقت، أحسّ خلالها بأنه ينزلق وئيداً نحو نوبة من الخوف الهلع والرعب، إذ كان يقف يقف على الرصيف المقابل القريب شخص غريب قد أثار الريبة في نفسه وهو يمسك بمقود دراجة هوائية عتيقة وينظر صوبه من وراء نظارتين سميكتين سوداوين وفكر بإجهاد كبير فيما إذا كان الرجل ذو الدراجة ينوي به شراً. وراح يبحث عن الدواعي التي تجعله ينظر إليه بهذه الطريقة التافهة العارية ويركز عليه هذا التركيز الصلف العنيد، من هو؟ ماذا يريد؟ ولماذا يقف بمواجهتي تماماً؟ وأدرك عدة غايات ومقاصد، وطفحت في نفسه الشكوك والوساوس،وتشابكت في عقله خيوط ظلام كثيرة. ألا يمكن أن يكون عين الشخص الذي يحتفظ به في وعيه منذ زمن بعيد؟ وحين أخذ ينقب في وعاء ذاكرته المثلمة في إذا كان في حياته رجلٌ من هذا النوع، أصابه الفشل والاندحار فقال في ذات نفسه بأنه لا يستحق هذا العناء من التفكير والخوف، فلسوف يضحك عليه الآخرون ويتهمونه بالحماقة والخبال والجبن. فقال لنفسه من جديد: لقد صرت تتوهم كثيراً، لقد صرت كثير الشكوك، ورفع العلاقتين بعد أن وضعهما على الأرض دون وعي، وأراد الذهاب فارتعد روحه، وازداد رعبه، إذ أن هاتين العينين الزجاجتين المتربصتين لا تريدان ترك النظر نحوه إطلاقاً فماجت في رأسه أجسام حارة دبقة شبيهة بالديدان بعضها يربض فوق بعض، وبدأ يتحقق في كيانه اكتمال غامض أخذ يزحف إلى روحه بروية ويستأثر به ثم ألقاه على أعتاب مرحلة مخيفة من المشاعر والمدارك فردد خائفاً: يجب أن أرحل من هنا بأقصى ما أستطيع قبل فوات الأوان! إلا أنه وجد بأن الوقوف بين طوابير المنتظرين لسيارات الأجرة غير معقول إطلاقاً، فاتخذ قراراً عاجلاً بالذهاب مشياً، والناس الذين يذهبون ويجيئون في الشوارع هم الذين سيتكفلون حمايته والدفاع عنه، لكنه انتبه بضيق وتكدر بأن الآخر الذي أخذ يتصنع النظر نحو الجهة المعاكسة البعيدة لتضليله، يمتلك دراجة هوائية وسوف يمتطيها ويلحق به، إضافة إلى الثقل الزائد عن اللزوم الذي يتمسك به بيديه الهالكتين البائدتين. وفكر بالتخلص منه، إلا أنه وجد بأن هذه الفكرة غير معقولة أيضاً وسوف يكون مثار سخرية زوجته، فهرول مع كرشه المستديرة وشعور بالحصار يضيق عليه ويفقده السيطرة على أعصابه. وبدأ العرق يتصبب من جبينه وهو يحث الخطى فوق الرصيف العالي، والسيارات تتعاقب في الشارع بمصابيحها التي أخذت تبرق كعيون القطط. لا بد من تضليله في الطريق. وخاف في قرارة نفسه أن يكون واهماً في كل ذلك وهو يلتفت إلى الوراء بقلق وبلاهة، لكنه وجد أن الظلام الخفيف الذي بدأ يهبط الآن فوق الأشياء والمنازل بحيوية ورشاقة، يهبط هو الآخر في وعيه كالطائر التائه، ثم تصور ببلاهة وشذوذ وهو يلتفت باستمرار والرعب يأكل أوصاله بأن المئات من الدراجات الهوائية تطارده في الطريق بينما يلوح له أصحابها بأذرعهم الصاعدة الهابطة وهم يضحكون ويقهقهون ويطاردون. فصاح: كلا. كلا. وتكاثرت عليه المخاوف والشكوك وهو يدور حول نفسه حين مرق «موتوسايكل» بطيش وجنون، وغاب في قعر الشارع البعيد بعد أن تلوى يميناً وشمالاً وسط السيارات الفزعة المندهشة. ووصل بعد قليل جوار رصيف مركز الشرطة الذي يتوسط المنطقة تماماً، فشعر بنوع من الطمأنينة والأمان، لكنه اعتقد بأن الشرطي الذي يباعد ما بين ساقيه عند الباب الضيق المرتفع ويثبت عقب بندقيته اللامعة على الأرض، يبتسم هو الآخر وربما يضحك منه، فاتخذ قراره بالمواصلة والاستمرار نحو البيت. إن بيته خلاصه الوحيد وملاذه الآمن، فتلقفت أذناه سؤالا ساخراً طائشاً وهو يعاود الركض:ماذا؟ هل ضايقتك حاجتك؟ فقال لنفسه مدمدماً بانزعاج: لا عليك لا عليك هؤلاء البلهاء لا يصدقون ولا يفقهون.
واندفع إلى الأمام اندقاعة اقوي جعلت بعض الأطفال الذين كانوا يلعبون وسط الزقاق الفرعي المرابط للشارع العام يتطايرون عنه خائفين كالدجاجات المذعورة، كما جعلت أحد معارفه الذي كان يتخذ طريقاً معاكساً يتشبث به بشكل مباغت، وأخذ يسأله بتعجب: لماذا يلهث ويتراكض بهذا الشكل المخيف بحق الشيطان. لكنه لم يوسع له مجالاً قائلاً له باضطراب وصبر نافد بأن الحظ قد حالفه أخيراً وهو يجيء للمساعدة والإنقاذ. يجب أن تتبعني على الفور. إنّ خطراً ماحقاً يهددني. إن رجلاً يريد قتلي. فعلقت «ماذا؟» كالشوكة في حلقه، لكنه أنهد منه وواصل الركض وهو يخبره بأن عليه أن يتبعه دون نقاش. فهل تريد لي أن أموت على يد الغرباء؟ كلكم لا تصدقون. كلكم تشككون. كلكم تخرفون. وكان قريبه قد جحظت عيناه وانعقد لسانه وبدأ يفقد شيئاً من عقله، فركض وراءه بقامته الطويلة وهو يتوجس خطراً من الأخطار ويتصور وقوع فضيحة من الفضائح وينادي عليه بشكل موصول: قف أرجوك وقل لي ما حدث بالضبط فربما أستطيع تقديم العون. لكنه لم يكن راغباً بأن يفسّر الأشياء والأمور فإنّ لحظاته حرجة جداً وهو لم يدخل في حسابه هذه الرجاءات وهذه الشروح وعليه أن يلحق به ولا يتركه دون حماية فسوف يتأسف إن لم يفعل ذلك. سوف يتأسف بالتأكيد. سوف ترى. وازدادت الهرولة، ووقف بعض المارة مستغربين من هذه الوضعية الغريبة غير المعقولة، كما أبطأت بعض السيارات المارقة في الشارع لدراسة الموقف. لا شيء إلا السرعة! لا شيء إلا الركض! لا شيء إلا الفرار!
وانعطفا في شوارع عديدة وأزقة ضيقة، والتلفّت يزداد، والخوف يتضاعف، والأعصاب تنهار وتتحطم، والغروب الرمادي الثقيل يهبط بقتامة شديدة.
وتوقف أخيراً عند بوابة داره الخارجية ذات الخشب المضلع وهو ينفض أنفاسه على شكل دفقات نافخة، ثم دفعها بكتفه الثقيلة وألقى بالعلاقتين فوق ممر الفناء الإسمنتي الطويل الذي يمتد نحو صحن الهول، وطلع نحو البوابة مرة أخرى، وراح يتطلع باتجاه مداخل الأزقة القريبة وهو يسحب من جيب بنطاله الجانبي منديلاً عتيقاً أخذ يهرش به صدره الناقع الكثيف الشعر.
وكان قريبه الذي يصغره بعشرين عاماً ويتفوق عليه بالطول ثلث ياردة قد وصل إليه ووقف إلى جنبه محرجاً مشدوها، يبحث عن أجوبة شافية لإعصار كامل من الاستفسارات، فسأل بلوعة وعذاب فيما إذا سيكون في النهاية رجلاً عاقلاً ويقص عليه بهدوء وعلى مهل ما حدث له بالضبط، وكان قد أصابه الإرهاق من تكرار السؤال أثناء ما كانا يركضان وضجر منه ضجراً كاملاً، فأجابه هذا إجابة مضللة وغامضة بأنه قد رآه يطيل التحديق فيه ويلاحقه بإصرار فصاح في وجهه: من الذي يتبعك؟ من الذي يبحلق فيك؟
فأصدر الرجل من يده حركة غريبة نافدة الصبر كأنه يطرد كدساً من الذباب قد حطّ على وجهه: سوف تأتي الساعة بعد حين. وما عليه سوى أن ينتظر. إنه على يقين. على يقين. فإن هذا الرجل ذا الدراجة الحمراء القديمة ليس غريباً عليه ولن يتركه بسلام. إن لديه تجربة مماثلة. تجربة سابقة ولا يمكن له أن يخطأ. خذ هذه الكلمة الصادقة مني. سوف ترى ما يحدث. يجب أن تتهيأ لذلك. عليك أن تنتظر.
وأخذ يعيد ترتيب هيأته المشوشة بأن أدخل قميصه المتهدل بمشط يده تحت حزام بنطاله الواسع، ومرر منديله القذر على وجهه السمين ورقبته الضخمة.
ومرت عليهما الدقائق وهما يثرثران بقلق واضطراب عند عتبة الباب الخارجي عن الأمور غير المعقولة والحماقات والمهازل في هذه الدنيا المضحكة، وهبطت على كتوف المنازل ظلال أكثر حدة وقتامة، وبدأت العوائل بإخراج كراسيها ومقاعدها وعربات أطفالها عند عتبات بيوتهم بعد أن تركت المصابيح الخارجية مطفأة كي تأخذ حرية أكبر في الجلوس والاستمتاع، وكانت صورة الرجل ذي الدراجة العتيقة الحمراء تطوف في ذهنه كالسباح الماهر. ولمعرفته بذاته بأنه لم يرتكب خطأ، ولا يدري على وجه الدقة كيف طلب لمثل هذا القصاص اللعين غير العادل، فقد اعتبر الأمر باطلاً ولن يسمح لأي امرئ أن يجرجره في الشوارع أو يضع الكبول في يديه أمام أنظار الآخرين، وربما يشبعه ضرباً بعصا غليظة على بطنه وظهره ومؤخرته ويكلله بالعار. إنه يكره الرفسات والدفعات والانزلاقات. فالتفت إلى صاحبه قائلاً بما يشبه الصراخ: كلا. لن أسمح لهم بذلك. أنت تعرفني حق المعرفة ما عليك إلا أن تشهد لصالحي. لصالحي. إنهم واهمون أصحاب الدراجات هؤلاء وكان هذا قد تفاقمت في عقله أوهام كثيرة، ودلالات ناقصة، ومخاوف غير منظورة ورغبات ناجزة بالصراخ أيضاً، فرجاه بأن لا يزعج نفسه بهذه الترهات. إنها ترهات لا غير. ولا بد بأنه قد أنهك روحه كثيراً حتى سمح لتصورات وهمية أن تجتاح عقله بهذه الصورة الشنيعة. عليك أن تتعقل. إنّ مثل هذا التصرف لا يليق برجل طاعن في السن مثلك.
فصرخ قريباً من وجهه بخوف ورعونة واضطراب: ها هو قد جاء! ها هو قد جاء!
وكانت غالبية العوائل التي خرجت تواً إلى عتباتها لاستنشاق الهواء قد انتفضت في كراسيها متتبعة إشارته نحو الرجل ذي الدراجة الذي برز من فم الزقاق البعيد ثم انعطف نحو مدخل الزقاق الآخر القريب بتؤدة ولامبالاة دافعاً صدره إلى الأمام. فصرخ مرة أخرى انظر. انظر. أما رأيت. لقد نظر نحوي مرة أخرى. ها هو ينظر. كم قلت لك بأنه يريد إيذائي. لا بدّ أن أحداً قد أوصاه بذلك. سوف أحضر مسدسي. سوف أحضر مسدسي. وتفاقم قلقه وارتباكه، وسيطرت عليه حالة انشداه قصوى، فأخذ يهز قريبه من كتفيه هزاً قوياً أثناء ما كان يصرخ، وكان هذا قد رآه فعلاً يحدق فيه لحظة أثناء مروقه لكنه لن يكون مبرراً كافياً ومقنعاً، فتشبث بياقته وردن قميصه مانعاً إياه من الذهاب على هذه الهيأة المفزعة التي تقطر عرقاً وخوفاً وجنوناً، فعجز عن السيطرة على جسده الهائج، الأمر الذي مكنه من الإفلات. وما كاد يدلف إلى البيت وراءه لمعالجة الموقف حتى اندفع بوجهه كالإعصار، مضطرب الأعصاب، منفوش الشعر، مبهور الأنفاس وهو يقبض بباطن كفه السمينة مسدساً صغيراً راح يلوح به إلى أعلى تتبعه زوجته وبناته هائجات، صارخات، مذعورات.

مايس 1979