رؤية نفسية

ما بين يوم الغدير والطف .. حين ارتفعت يدٌ وسقط جسد

دكتور هاشم حمزة العيساوي

مدرس مساعد أيام الزاملي  

  إن التأمل النفسي في الفاصل الزمني بين يوم الغدير ويوم الطف لا ينبغي أن يُختزل في كونه مجرد بُعدٍ تاريخيٍّ أو دينيٍّ بين مشهدين عابرين، بل هو نافذة على التحوّل العميق الذي أصاب الذهن الجمعي للمجتمع، وأثر في العاطفة والضمير الإنساني، وامتدّ إلى القيم والذاكرة الأخلاقية للأمة. ففي يوم الغدير ارتفعت يد الإمام عليٍّ عليه السلام في رابعة النهار، مرفوعةً بيد النبيّ محمدٍ صلى الله عليه وآلة، إعلانًا لميثاق الولاية والقيادة، وتكريسًا ليوم الحق والوفاء. أما في يوم الطف فقد سقط جسد الإمام الحسين عليه السلام وأجساد أبنائه وأصحابه ممزّقةً مطعونةً على أرض كربلاء، وكأنّ سقوطهم كان سقوطًا مروّعًا لكلّ تلك العهود، وخيانةً لكلّ الأيادي التي صفّقت وأيّدت في يوم الغدير.

  ومن منظور علم النفس الاجتماعي، يُعدّ ما حدث في يوم الطف انقلابًا عميقًا في البنية النفسية والذات والاجتماعية للمجتمع، وانهيارًا واضحًا في منظومة العقائد والقيم والعادات والمواثيق. فقد تحوّلت المبادئ والعقائد والقيم والعادات والمواثيق إلى مجرّد شعارات جوفاء، وتراجع الوعي الجمعي للامة من إدراك الحق ونصرته، إلى التبرير ثم الخيانة والخذلان، ويُلحظ بوضوح التباين الكبير بين مشهدي الغدير والطف، ليس من حيث البعد الزمني فحسب، بل من حيث التحول النفسي العميق الذي أصاب الذات الجمعية، ففي يوم الغدير اجتمع الناس على بيعة الإمام علي (عليه السلام)، وأظهروا الولاء والوفاء والمسؤولية الدينية والاخلاقية، بينما في يوم الطف اختفت هذه المسؤولية تحوّلوا إلى أدوات صامتة وشهود زور، يصفّق بعضهم للدم، ويصمت بعضهم عنه، وينشغل آخرون بمصالحهم الذاتية وعدم استجابتهم الى صرخات الأطفال العطاش ودموع الحرائر.

  وما حدث يوم الطف يُعدّ انفصالًا بيّنًا في الهوية الجماعة وانقسامًا داخليًا للذات، وخللًا عميقًا في البنية العقائدية والقيمية والتربوية للأمة، فالذين هتفوا يوم الغدير قائلين:( “بخٍ بخٍ لك يا علي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة”)، هم أنفسهم الذين لاذوا بالصمت يوم الطف، حفاظًا على مصالحهم، بل إنّ كثيرًا منهم رفع السيوف في وجه الإمام الحسين عليه السلام. وهذا التناقض بين الإيمان القولي والايمان العملي يُعرف في علم النفس الأخلاقي (بـالازدواج القيمي) حيث تنقسم الذات بين ما تؤمن به في العمق، وما تمارسه في الواقع، فتصبح الذات رهينة الخوف، وحب السلطة، والمصلحة، على حساب الحق والالتزام القيمي الحقيقي. وإنّ الموقفين في الغدير والطف، يكشفان عن جدلية عميقة وحوار واضح بين الوعي واللاوعي في التكوين النفسي والجمعي للأمة،  ففي يوم الغدير كان الوعي الجمعي حاضرًا بقوة، أما في يوم الطف، فقد غاب هذا الوعي تحت وطأة المصالح والانهيار أمام ضغوط الواقع، وهنا برزت أزمة الهوية الأخلاقية، إذ فقدت الأمة قدرتها على الثبات على ولاية الإمام الحسين عليه السلام، وتحوّل الإيمان من التزام ديني وعقائدي وأخلاقي راسخ إلى حالة انفعالية آنية، عاجزة عن الصمود أمام اختبار الزمن والموقف، ولم يثبت في هذا الاختبار المصيري إلا القلّة، أولئك الذين (اصحاب الامام الحسين) اصطفّوا في صف الإمام الحسين عليه السلام؛ وحدهم امتلكوا بنية نفسية متماسكة، مكنتهم من اجتياز المحنة بثبات وإيمان لا يتزعزع.

  فإن المسافة بين الغدير والطف ليست مجرّد بُعدٍ جغرافي، بل هي شرخٌ عميق في الذات الإنسانية، بدأ منذ لحظة التراخي عن نصرة الحق، وتفاقم عبر طبقات من التبرير والخوف، حتى بلغ ذروته في كربلاء.   وبين اليد التي ارتفعت إعلانًا للولاية، والجسد الذي سقط صريعًا على الرمال، انهارت الأقنعة، وسُدل الستار على أعظم مأساةٍ نفسيةٍ في التاريخ البشري، حين غدا الصمت أبلغ من الولاء والتخاذل قناعًا يرتديه الجبناء فتحوّل الوعد إلى مجرّد ذكرى والميثاق إلى دمٍ مهراق.

  وإن القراءة النفسية لهذا التناقض الفادح لا تكتفي بتتبّع التحوّل، بل تسعى إلى فهم جذوره العميقة للذات، ومعالجة امتداداته الفرد التي ما تزال حاضرة في كل ضميرٍ ونفس لم يثبت على الحق، وفي كل مجتمعٍ يُعيد مشهد الطف بأشكالٍ مختلفة وتنوع الذات الانسانية، حين يرفع شعارات الغدير ولا يواجه طغيان الطف، ولا ينصر الحسين في وجه يزيد العصر، فاليد التي ارتفعت في الغدير، ترمز نفسيًا واجتماعيا إلى وضوح القرار، وإلى الإعلان الواعي لتحمّل المسؤولية الاجتماعية والدينية والأخلاقية، أما الجسد الذي سقط في كربلاء، فيرمز إلى خذلان الجماعة وتخلّيها عن تلك المسؤولية الجماعية ومناصرة الحق، وتحويل الحق من قضيةٍ جامعة إلى عبءٍ ثقيل تتنصّل منه النفوس الضعيفة. ويتجلى التناقض النفسي للذات بين اليد المرفوعة والجسد المسفوح، بين الوفاء بالوعد ونكث العهد، بين الإرادة الجمعية في يوم النور، والانهيار الجماعي في يوم الدم.

التصنيفات: أخبارمقالات