وداد ابراهيم

أينما تحلّ عروض دار الأزياء، تبهر الناظرين ويصمت الحاضرون أمام خطوات العارضات والعارضين الواثقة، وهم يرتدون أزياءً تعود لعصور تمتد إلى أربعة آلاف أو حتى سبعة آلاف سنة. ومع ذلك، فإنها أزياء تشير إلى أن هذه حضارة عظيمة، وأن من بناها كانوا أناسًا أصحاب مجد كبير. وأكثر ما يشدّ المتلقي في عروض دار الأزياء الأوبريتات التي تقدمها، والأشعار التي تتغنّى ببطولة إنكيدو، وكلكامش، وأشور بانيبال، وآسرحدون. فتطلّ الملكات عشتار وشبعاد وإنانا بأزياء زاهية وألوان نابضة بالحياة، مصحوبة بقصص تحكي أمجاد حضارة وادي الرافدين. لقد تأسست هذه الدار لتكون الصوت والكلمة والأنشودة والشعر والمسرحية التي تعيد إحياء حضارة علمت الإنسان الأول الكتابة، وصناعة العجلة، والفن، وحتى صناعة العطور. وهذا ما منح الدار القوة والجمال والديمومة، فهي ليست مجرد دار للأزياء، بل تجسيد لكل تفاصيل حياة إنسان وادي الرافدين.


إن الأزياء ومكملاتها تعكس بوضوح طبيعة الحياة اليومية لإنسان بلاد الرافدين في كل مراحل حياته وعبر مختلف العصور. فالملابس توضّح الطبقات الاجتماعية، والمناصب، والتخصصات، بالإضافة إلى ملابس المناسبات الخاصة، كالأزياء الدينية وأزياء الحرب والصيد. كما أنها كانت تعكس المفاهيم الفكرية والسياسية والاجتماعية، وتظهر المواد المستخدمة في صناعتها. ولذلك، فإن الأزياء وصناعتها ومكملات المظهر الخارجي ليست مجرد زينة، بل جزء من ظواهر الحضارة، وذات أبعاد اقتصادية واجتماعية ونفسية.
ولو أمعنّا النظر في أزياء الأشوريين، والبابليين، والكلدانيين، والسومريين، وملوكهم، ورجال الدين، والمحاربين، لوجدنا أن أزياءهم كانت غنية بالحلي، والتي صُنعت من الخشب أو الذهب أو الفضة. وهذا يثبت بلا شك العمق الحضاري والجمالي الفريد الذي كان عليه الإنسان العراقي القديم، كما يتجلى في دقة التقنيات الفنية المستخدمة في تصميم الملابس وتناسقها.
تاريخ دار الأزياء العراقية
نظرًا لهذا الإرث العظيم، أصبحت دار الأزياء العراقية إحدى أهم تشكيلات وزارة الثقافة والسياحة والآثار، وتضم جيشًا من الخياطين والمطرّزين والمصممين والفنيين والإداريين
البدايات والتأسيس


منذ تأسيس دار الأزياء العراقية، وقفت على أرضها سيدة تعدّ من أقوى سيدات المجتمع العراقي، وهي فريال كاظم الكيدار، التي قادت الدار نحو نجاحات كبيرة، وشاركت بها في مهرجانات عديدة، ونالت جوائز مرموقة. ومع ذلك، كانت العروض تُقام بشكل محدود، دون أن تُفتح أبوابها أمام الجمهور الاعتيادي. إلا أن ذلك تغير عام 2005، حين بدأ تقديم العروض العامة، وتوالى على إدارتها العديد من المدراء. وكانت السيدة الثانية التي قادت الدار شيرين محمد عارف، التي استمرت في إدارتها ست سنوات، قدّمت خلالها العديد من العروض داخل العراق وخارجه، حتى وصلت عروض الدار إلى أكثر من 700 عرض فني في أكثر من 70 دولة عربية وأجنبية
على مدار نصف قرن، ظلت دار الأزياء العراقية، أو كما تُعرف الآن باسم الدار العراقية للأزياء، صرحًا ثقافيًا وفنيًا بارزًا ضمن مرافق وزارة الثقافة العراقية. ويقع مبنى الدار في واحدة من أجمل مناطق بغداد، زيونة، وهو بناء شامخ صُمّم ليشبه الزقورة، في استلهام واضح للرموز التاريخية للحضارات العراقية.
تضم الدار عدة أقسام، منها، قسم التصميم، وقسم الخياطة، وقسم التطريز،وقسم العرض والتدريب، وقسم متحف الأزياء، وقسم الإكسسوارات، قسم الملابس الأشورية والبابلية والسومرية إن هذه الأقسام، بطوابقها وأروقتها، تسهم في تحقيق نجاحات كبيرة، بفضل العمق الحضاري لوادي الرافدين، وجمال الأزياء التاريخية للحضارات التي عاشت على أرض العراق من شماله إلى جنوبه.

التطريز.. تحف فنية نادرة
يُعدّ قسم التطريز من أهم الأقسام في الدار، حيث لا نجد ملابس في العصور التاريخية إلا وكانت مزدانة بالتطريز، الذي يعكس الرموز الفنية لكل حقبة زمنية، سواء من حيث الألوان أو الأسلوب الفني. يعمل في هذا القسم كبار الفنانين والمبدعين، وجميع الملابس تُطرّز يدويًا دون استخدام الماكينات. والأمر اللافت أن رواد هذا العمل يعلّمون مهنة التطريز للموظفين الجدد، لضمان استمرارية هذه الحرفة النادرة. وتُعدّ الملابس المطرزة بمثابة تحف فنية لا تقلّ أهمية عن القطع الأثرية المحفوظة في المتاحف .

متحف الأزياء.. كنز محفوظ للزمن

قبل ثلاث سنوات، افتُتح في الدار متحف للأزياء يضم ثلاثة أروقة، تُحفظ فيه قطع الأزياء التي ارتدتها العارضات على مدار السنوات، والتي تصبح لاحقًا غير صالحة للعرض. تُعرف هذه القطع باسم «القطع المتحفية»، وكانت سابقًا تُخزن في أماكن مغلقة، إلا أن المتحف الجديد فتح أبوابه للزائرين يوميًا، ليصبح محط إعجاب لكل من يزوره، إذ يعكس عمق التراث العراقي من خلال الأزياء التي جسدت حضارة وادي الرافدين عبر العصور.

التصنيفات: أزياءفنون