
أ.د.مدحت الكاشف
تتطلب مقاربة هذا العنوان الوقوف على مستويين متداخلين:ثقافة الجسد: والتي تعني فهم الممثل لجسده كأداة أداء، وكيفية ترويضه، وتدريبه، وتحريره من قيود الحياة اليومية ليصبح وسيلة تعبيرية مرنة، وجسد الثقافة: والذي يشير إلى تمثل الثقافة الجمعية داخل الجسد الفردي، أي كيف يصبح جسد الممثل حاملًا لرموز وتقاليد وتمثلات مجتمعه، ويتحول إلى مرآة تعكس وعيه وهويته، وذلك على اعتبار أن الجسد ليس مجرد وعاء ينفّذ الأوامر فحسب، بل هو نص قائم بذاته،فمنذ بدايات المسرح الطقسي وحتى مسارح ما بعد الحداثة، شكّل الجسد جوهر التجربة المسرحية، فالممثل الجيد ليس من “يؤدي” فقط، بل من “يسكن” الدور بجسده، ففي مسرح “جروتوفسكي” مثلًا، يغدو الجسد حقلًا للتجريب الروحي والمعرفي، أما في “البيوميكانيكا” عند ماييرهولد، يصبح الجسد هو منظومة ميكانيكية جمالية يجب تدريبها بانضباط شديد، بينما في مسرح الشرق الأقصى التقليدي، مثل “النو” الياباني أو “الكتاكالي” الهندي، على سبيل المثال نجد أن الجسد هو تراث بصري وأيقوني ينقل المعنى الداخلي أكثر من الكلمة، وهنا فإننا ننظر إلى الجسد بوصفه بنية ثقافية، فالجسد الإنساني ليس محايدًا، بل مشحون بالتاريخ والرمز والأسطورة، وهنا، يصبح من الضروري مساءلة العلاقة بين “جسد الممثل” و”جسد الثقافة”، عندئذ تقفز أمامنا الأسئلة: هل يخضع الممثل في مجتمعاتنا العربية لنماذج جسدية نمطية (القوة، الوسامة، الأنوثة…) تفرضها الثقافة السائدة؟، هل يحرر المسرح هذا الجسد من هذه النماذج، أم يعيد إنتاجها؟، ما حدود الجسد المكبوت في المجتمعات المحافظة؟ وهل يستطيع الممثل تجاوز هذه الحدود دون أن يُعاقب ثقافيًا أو اجتماعيًا؟

إن ثقافة الجسد تبدأ من وعي الممثل بجسده كوسيلة للتعبير، لا كموضوع للزينة أو الأداء السطحي، ومن ثم، فإن تدريبات التنفس، والاسترخاء، واستخدام الحواس الخمس للممثل… كلها خطوات أولى لفهم علاقة الجسد بالفضاء، فالممثل الذي يعي حركة كتفه كما يعي مشاعره، يستطيع تحويل الألم النفسي إلى لغة جسدية محسوسة، كما أن المدارس الحديثة في التمثيل، مثل مدرسة ” جاك لوكوك” الفرنسية أو “سوزوكي” اليابانية، جعلت من الجسد مركز العملية الإبداعية، لا مجرد تابع للنص، مما يمكن معه الزعم بأن الجسد هو الثقافة والثقافة هي الجسد، إن الممثل الحقيقي لا يتعلم التمثيل فقط، بل يتعلم كيف يسكن جسده بصدق، ويتعلم كيف يحمل على كتفيه جسد ثقافةٍ بأكملها، فهو، في لحظة التجلي المسرحي، لا يعود فردًا فقط، بل يصبح وسيطًا بين الذات والكون، بين التجربة والرمز، بين الداخل الجمعي والخارج الفردي.

وإذا نظرنا إلى الجسد كأداة تعبيرية فإننا نجد أن الممثل يكتب بلغته الصامتة، والجسد هنا ليس مجرد وسيلة، بل هو نص صامت يكتب به الممثل معاني الدور، إن الحركة، أوالوقفة، أوالنظرة، أو الارتعاشة، كلها علامات دلالية تترجم شعور الشخصية وموقعها في العالم، ففي مسرح “جروتوفسكي”، على سبيل المثال يتدرب الممثل على استخدام عضلات جسده لأداء [الألم] دون أي كلمة، ومن ثم، فإن ثقافة الجسد تعني وعي الممثل بقدراته العضلية والحركية والنفسية، وترويض هذا الجسد ليصبح طيّعًا في التعبير، عوضًا عن كونه خاضعًا للعفوية والتلقائية، ونجد في مدرسة جاك لوكوك (Jacques Lecoq)، يتعلم الممثل كيف يعبّر بجسده من خلال القناع الصامت، ما يفرض عليه شحذ ماهو مهمل أو مسكوت عنه في تعبيراته الجسدية.
ومن منظور جسد الثقافة، يعد الجسد مرآة عاكسة لهوية المجتمع، ويصبح جسد الممثل عندئذ غير محايد؛ إنه يحمل آثار ثقافته ومجتمعه، سواء في حركته أو في ما يُسمح له بالتعبير عنه، وفي المجتمعات المحافظة، يتم تقييد حركة الممثل الذكر/ والممثلة الأنثى، بحكم تابوهات تتعلق بنظرة المجتمع إلى الذكورة والأنوثة في السياق الثقافي العام، وهذا يظهر مثلا في عروض مسرحية حيث تتجنّب الممثلة فيها الحركة الجسدية المتحررة، وهو الأمر الذي يعاني فيه الممثل العربي من كبت طويل الأمد بشكل عام، الأمر الذي يجعل من جسده أداة ضعيفة في التعبير، أو محدودة، خاصة حين لا يتلقى تدريبًا حقيقيًا على تحرير ذلك الجسد الذي يمكن أن يحول المسرح إلى مساحة مقاومة، حيث يتيح المسرح مساحة لتحرير الجسد من الأطر الصارمة التي تفرضها الثقافة السائدة، وهنا يصبح العرض المسرحي فعلًا مقاومًا ومحرّرًا للذات، وهو مانجده مثلا في عروض “أريان منوشكين” مع فرقة ” مسرح الشمس”، حيث يُعتبر الجسد عندها وسيلة مقاومة ضد القمع الاجتماعي والسياسي، وفي اللحظة التي يتحرّر فيها الجسد، يصبح أداة رمزية تعبّر عن الجماعة، والذاكرة، والوطن، أو ربما الاغتراب، وحين يدرك الممثل أن جسده ليس أداة أداء فحسب، بل هو حامل للثقافة وميدان للمقاومة والتعبير، يصبح أداؤه مسكونًا بالصدق والوعي والتحوّل، ومن ثم، فإن ثقافة الجسد ليست رفاهية في تدريب الممثل، بل جوهر بناء الممثل الكامل، الذي لا يؤدي فقط، بل يفكّر ويتنفس ويتألم بجسده.
وفي المسرح والسينما والتلفزيون، يقف الممثل كوسيط حيّ بين النص والمرئي أو المجسد ، أو بين الفكرة والتجسيد، أو بين الوعي الجمعي والذات المتفردة، لكن ما يغيب أحيانًا عن الأنظار هو أن جسد الممثل ليس مجرد أداة أو وسيلة، بل هو فضاء معقد تتقاطع فيه ثقافة الجسد مع جسد الثقافة، وهنا نتسائل :هل الجسد أداة تمثيل؟ أم أنه هو نفسه المعنى؟ وهل الثقافة تتجسد في جسد الممثل، أم أن الممثل يضطر إلى إعادة تشكيل جسده ليتلاءم مع منظومات ثقافية مسبقة؟.
وإذا نظرنا إلى الجسد بوصفه مشروع اجتماعي وتاريخي، نجد أن الجسد ليس كيانًا بيولوجيًا فقط، بل هو كائن اجتماعي ونتاج لسياقات تاريخية وثقافية، فطريقة الجلوس، أو المشي، أو التحديق، أو الانفعال، وحتى الصمت، كلها معاني متعلمة ومشروطة بثقافات معينة، لذلك، فـ”ثقافة الجسد” تشير إلى كيفية تطويع الجسد وفق معايير الجمال، والأداء، والانضباط، والدور الذي يلعبه الجسد كرمز في اللغة والمعتقدات والأساطير، وفي هذا السياق، يناقش ” ميشيل فوكوه” العلاقة بين الجسد والسلطة في تحليله لممارسات المراقبة والانضباط، وهنا يتحدث ميشيل فوكوه عن الجسد ليس باعتباره كيانًا طبيعيًا فقط، بل باعتباره منتجًا ثقافيًا خاضعًا للسلطة. في كتابه “المراقبة والمعاقبة”، وفيه يبين كيف أن السلطة لا تعمل فقط من خلال المؤسسات والقوانين، بل أيضًا من خلال تطويع الأجساد عبر العادات، والسلوكيات، والانضباط الجسدي، وحتى النظرات، وعند إسقاط هذا على الممثل، يصبح التمثيل أكثر من مجرد وسيلة لأداء الدور؛ بل هو عملية تفكيك لأنظمة القوة التي تسكن هذا الجسد، فالممثل لا يمثل فقط شخصية، بل يفكك ويمثل كيفية تكوين تلك الشخصية اجتماعيًا وثقافيًا، وذلك على اعتبار أن كل إيماءة أو حركة هي، بهذا المعنى، محمولة بخطاب سلطوي ضمني، يقوم الممثل بتجسيده وربما نقده، ويلخص “فوكوه” هذا كله بقوله: “إن الجسد هو السطح الذي تنقش عليه القيم الثقافية”، وفي هذا السياق ، فالممثل لا يقدم جسده بحرية مطلقة، بل هو مطالب بتفكيك هذه الدلالات الثقافية، ثم إعادة تشكيلها، سواء لتمثيل شخصية تنتمي إلى زمن آخر أو ثقافة مختلفة، أو لتحدي التصورات النمطية التي تُفرض على الجسد، ومن جهة أخرى، فإن “جسد الثقافة” هو استعارة تشير إلى كيف تتجسد القيم والرموز والطقوس في الأجساد الفردية والجماعية، وهنا يصبح الجسد ساحة تمثل فيها الثقافة نفسها، لا من خلال الكلمات فقط، بل من خلال، الإيماءات ، والحركات، والإشارات، والسلوكيات، والتصرفات، والعادات اليومية، وأيضا الأزياء والاحتفالات والمواكب الشعبية، وأنماط الرقص، والرياضة، والطقوس الدينية، وعندما يؤدي الممثل شخصية من ثقافة معينة، فهو لا يستحضر فقط الجانب الذهني أو النفسي، بل يعيد إنتاج “الجسد الثقافي” بكل ما يحمله من تعبيرات، وطقوس، وأحيانًا تناقضات،وهذا ما يجعل التمثيل فعلاً معقدًا، يتطلب من الممثل أن يكون على وعي بالجسد كمرآة للثقافة، ولذا فمن الطبيعي أن يعيش الممثل إذًا في توتر دائم بين الولوج إلى جسد ثقافي آخر[وهو جسد الشخصية]، الأمر الذي يتطلب منه تجسيد لغة جسدية قد تكون غريبة عنه، وبين التحرر، أو السعي إلى تجاوز القيود الاجتماعية والثقافية المفروضة على جسده الحقيقي، بهدف خلق أداء حر ومتفرد، وهنا تظهر أهمية التدريب الجسدي للممثل، ليس فقط من أجل اللياقة أو الاتقان الحركي، بل لفهم الجسد كأداة للمعنى والتواصل والاختراق الثقافي، وفي النهاية، يمكن القول إن الممثل هو كائن ثقافي بامتياز، لأنه يحيا في جسده التوتر بين ما هو اجتماعي، وما هو فني؛ بين ما هو مكتسب، وما هو إبداعي؛ بين ثقافة الجسد، وجسد الثقافة، وعليه فإن تأمل هذه العلاقة يكشف لنا أن التمثيل ليس مجرد فن، بل فعل وجودي وفلسفي، يطرح أسئلة حول الهوية، والمعنى، والحرية، ويجعل من الجسد ليس فقط أداة للتعبير، بل موضوعًا للتفكير والتحرير.

ومن جانبه يرى ” ييجي جروتوفسكي” أن الممثل لا يجب أن يستخدم الجسد كأداة فقط، بل أن يتحول جسده إلى مادة تعبيرية خالصة، وفي كتابه “نحو مسرح فقير Towards a Poor Theatre ، يدعو إلى تحرير الجسد من كل زخرفة خارجية من (ديكور، وأزياء مسرحية، ومؤثرات…وما إلى ذلك)، ومن ثم، العودة إلى جوهر [الجسد الحيّ] كطاقة روحية مادية، وفي هذا السياق، يصبح الجسد المسرحي كيانًا طقوسيًا، يتقمص لا لكي يُقنع فقط، بل لكي يتطهّر،والممثل عنده ليس فنانًا فحسب، بل كائن شعائري، يعيد الاتصال بجذور الأداء كطقس قبلي، حيث الجسد لا يُستخدم بل يُستَثمر بالكامل.
كما إن مفهوم الجسد كهوية نجده متبلورا أيضًا في أفكار الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي “جان بودريار” الذي يحلل كيف أصبح الجسد في المجتمعات الحديثة سلعة ومشهديًا، والممثل هنا لا يؤدي فقط، بل هو أيضًا موضوع عرض، مما يجعله ضحية التشييء والتمثيل الزائد، أو المبالغ فيه، الذي يُفقده المعنى الأصيل، أما الأمريكية “جوديث باتلر”، صاحبة الأفكار النسوية، فتقترح في بعض أفكارها حول مسألة “الاضطراب في الجندر” أن الهوية الجندرية والجسدية يتم تأديتها باستمرار، ما يجعل الأداء ذاته فعلاً بنيويًا،ومن هذا المنظور، فالممثل الذي “يمثل” هو في الحقيقة يمارس فعلاً فلسفيًا، يعري بنية الهوية من وهم الثبات، ويكشف عن أن “الطبيعي” هو في الغالب نتيجة تكرار ثقافي.
ومن جانبها تدعم الأنثروبولوجيا الثقافية أيضًا هذا الطرح؛ فالجسد هو لغة رمزية، كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي “مارسيل موس” في كتابه “تقنيات الجسد (Les techniques du corps)، إن طريقة الأكل، أوالنوم، أوالمشي… كلها محملة بقراءات ثقافية مختلفة، والممثل، حين يجسد شخصية من ثقافة مختلفة، لا يؤدي سلوكها فقط، بل ينقل شفرتها الثقافية المشفرة في الجسد.
وبناء على ماسبق يمكن القول إن الممثل لا يوجد فقط “بين” ثقافة الجسد وجسد الثقافة، بل هو نقطة تقاطع ديناميكية بين الجسد بوصفه نصًا مكتوبًا من قبل السلطة والمجتمع، وبين الثقافة بوصفها جسدًا حيًا يُعاد تشكيله وتمثيله وإخضاعه للنقد،والتحليل، ومن ثم، فالتمثيل، من هذا المنظور، هو فعل تفكيك وإعادة بناء للثقافة من خلال الجسد، وفي ذات الوقت هو ليس تكرارًا لواقع، بل نقد للواقع عبر الجسد.