حكاية وَرْكَاءَ الخالدة

صلاح العمران

عندما تشرق الشمس من خلف ضفاف الفرات، تستيقظ وَرْكَاءُ من سباتها الألفي، تتنفَّسُ ذاكرةَ الحجارةِ التي تحملُ في طيّاتها أنفاسَ الملوكِ والكهنةِ والفلاحين. هنا، حيثُ يمتزجُ زرقةُ النهرِ بصفرةِ الصحراء، تقفُ المدينةُ كشاهدةٍ على مهدِ الحضارة، تُحدِّثُ كلَّ حجرَةٍ فيها عن أمجادٍ غُبِّرتْ، وعن أسرارٍ ما زالَ الدهرُ يُنْشِدُها. 

في قلبِ المدينة، يعلو الزقوراتُ كجبالٍ مُقدَّسةٍ تلامسُ السماوات، بياضُها يَصْدَحُ بنشيدِ الخلود. “البيت الأبيض” يُطلُّ على الدنيا من عرشِه الشامخ، كأنَّ الإله “آنو” ما زالَ يَسْكُنهُ، يُراقبُ من أبراجه حُجَّاجاً يأتون من أقاصي الأرض، حاملين القرابينَ وأسئلةً عن سرِّ الوجود. وعلى جدرانِ المعابد، تتراقصُ ظلالُ الكَتَبةِ القُدماء، تَسْطُرُ بأعوادِ القصبِ حكاياتِ الآلهةِ والأبطالِ، كأنَّ ألواحَ الطينِ هذه ما زالتْ رطبةً تنتظرُ أن تُخْبِرَ العالمَ عن أولِ قصيدةٍ كُتِبَتْ للإنسان. 

أما سورُ وَرْكَاءَ العظيم، فيَحمِلُ في طينتِه قَسَمَ “جلجامش”، البطلِ الذي طافَ الدنيا بحثاً عن سرِّ الحياة، ليعودَ في النهايةِ إلى مدينته، يكتشفُ أنَّ الخلودَ ليس في عشبةٍ سحريةٍ، بل في حجارةٍ تَروي للأجيالِ كيفَ بَنَتْ إرادتُهمُ الحياةَ من رحمِ المستحيل. هنا، حيثُ دارتْ عجلاتُ أولِ مركبةٍ، وانبثقَتْ أولى حروفِ الكتابةِ كنجومٍ تَهْدِي الضالينَ في ظلماتِ النسيان. 

لم تكن وَرْكَاءُ مجردَ مدينةٍ، بل كانت حُلْمةً إلهيةً نُقِشَتْ على جبينِ التاريخ. حتى حينَ داستْها أقدامُ الغزاةِ، من أكديينَ وبابليينَ وآشوريين، ظلَّتْ كالنخلةِ العتيقةِ: تُثْمِرُ حضاراتٍ جديدةً كلَّما سقطَتْ عنها سُيوفُ الزمن. 

اليوم، تُغَنّي وَرْكَاءُ بصمتٍ. حجارتها المبعثرةُ تهمسُ للرياحِ بلغةٍ لا يفهمها إلا من يسمعُ قلبهُ دبيبَ الأزل. الفراتُ، الحكيمُ القديم، يُدندنُ حولها أغنيةَ الشرقِ الأولى: “مَنْ سَيَرثُ العالَمَ بعدي؟”. فتجيبهُ الألواحُ الطينيةُ، والتماثيلُ المكسورةُ، وحتى غبارُ الشوارعِ: “أنتِ يا وَرْكَاءُ، مَنْبعُ الحكايات، ستظلينَ تُولِدينَ التاريخَ من جديدٍ، كلَّما انْكَسَرَ الزمنُ على أعتابِكِ”. 

هكذا، تبقى المدينةُ الخالدةُ تُراوِحُ بين الفخرِ والوجعِ، كقصيدةٍ كتبتها الأقدارُ على جلدِ الأرض، فلا النسيانُ يمحوها، ولا السهوُ يُميطُها. وَرْكَاءُ… اسمٌ يُلخِّصُ معنى الوجود: أن تُبْنَى من رمادِكَ مراراً، وأن تَحْمِلَ في طينتِكَ ذاكرةَ الماءِ والترابِ.

التصنيفات: أخبارمنوعات